فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله عز وجل: {الله نُورُ السموات والأرض}.
قال ابن عباس رضي الله عنه: هادي أهل السموات وأهل الأرض، ويقال: هادي أهل السموات والأرض من يشاء، وبين ذلك في آخر الآية بقوله: {يَهْدِى لِنُورِهِ مَن يَشَاء} ويقال: معناه الله مُنَّورُ السموات والأرض، وقال ابن عباس: بدليل قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} فأضاف النور إليه، وبدليل ما قال في سياق الآية {أَوْ كظلمات في بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يغشاه مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40].
وروي عن أبي العالية أنه قال: معناه الله منور قلوب أهل السموات وقلوب أهل الأرض بالمغفرة والتوحيد، يعني: من كان أهلًا للإيمان؛ ويقال: الله منور السموات والأرض.
أما السموات، فنورها بالشمس والقمر والكواكب، وأما الأرض، فنورها بالأنبياء والعلماء والعباد عليهم السلام.
ثم قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} يعني: مثل نور المعرفة في قلب المؤمن، {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}؛ يعني: كمثل كوة فيها سراج، ويقال: المشكاة الكوة التي ليست بنافذة وهي بلغة الحبشة.
وروي في قراءة ابن مسعود {مَثَلُ نُورِهِ} في قلب المؤمن، {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}.
ثم وصف المصباح، فقال: {المصباح في زُجَاجَةٍ} يعني: كمثل سراج في قنديل في كوة، فكذلك الإيمان والمعرفة في قلب المؤمن؛ والقلب في الصدر، والصدر في الجسد.
فشبه القلب بالقنديل، والماء الذي في القنديل شبه بالعلم، والدهن بالرفق.
وحسن المعاملة، وشبه الفتيلة باللسان، وشبه النار بالجوف في زجاجة.
يعني: في قلب مضيء؛ ويقال: إنما شبَّه القلب بالزجاجة، لأن ما في الزجاجة يرى من خارجها، فكذلك ما في القلب يرى من ظاهره، ويبيّن ذلك في أعضائه؛ ويقال: لأن الزجاجة تسرع الكسر بأدنى آفة تصيبها؛ فكذلك القلب بأدنى آفة تدخل فيه فإنه يفسد.
ثم وصف {الزجاجة} فقال: {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ} يعني: استنار القنديل بصفاء الزجاجة.
من قرأ بضم الدال، فهو منسوب إلى الدر، يعني: يشبه في ضوئه الدر، ومن قرأ بكسر الدال، يعني: الذي يدرأ عن نفسه، يعني: لا يكاد يقدر النظر إليه من شدة ضوئه.
قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم في رواية حفص {دُرّىٌّ} بضم الدال غير مهموز، وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وبهمز الياء، وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر بالضم والهمز.
ثم قال تعالى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة} يعني: السراج يوقد بدهن من شجرة مباركة {زَيْتُونَةٍ}؛ قرأ أبو عمر وابن كثير {توقد} بنصب التاء والواو والقاف بلفظ التأنيث؛ وأصله تتوقد فحذف إحدى التاءين، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بضم التاء والتخفيف بلفظ التأنيث، على فعل ما لم يسم فاعله؛ وقرأ الباقون {توقد} بلفظ التذكير والتفسير، على معنى فعل ما لم يسم فاعله.
فمن قرأ بالتأنيث، انصرف إلى الزجاجة؛ ومن قرأ بالتذكير، انصرف إلى المصباح والسراج.
ثم وصف الشجرة المباركة، فقال: زَيْتُونَةٍ {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي لم تكن بحال تصيبها الشمس في أول النهار وآخره، فكذلك هذا المؤمن تكون كلمة الإخلاص في قلبه ثابتة مثل ثبوت الشجرة، فلا يكون مشبهيًا، ولا معطليًا، ولا قدريًا، ولا جبريًا؛ ولكنه على الاستقامة؛ ويقال: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} يعني: تكون في وسط الأشجار، حتى لا تحرقها الشمس؛ فكذلك هذا المؤمن بين أصحاب صلحاء، يثبتونه على الاستقامة.
وروي، عن الحسن أنه قال: ليس هذه من أشجار الدنيا، لكن من أشجار الآخرة، يعني: أن أشجار الدنيا لا تخلو من أن تكون شرقية أو غربية، ولكن هذه من أشجار الآخرة، فكذلك هذا المؤمن أصاب المعرفة بتوفيق الله عز وجل.
قال: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يعني: أن الزيت في الزجاجة.
يكاد أن يضيء، وإن لم يكن موقدًا؛ فكذلك المؤمن يعرف الله تعالى ويخافه ويطيعه، وإن لم يكن له أحد يذكره ويأمره وينهاه.
ثم قال: {نُّورٌ على نُورٍ} يعني: الزجاجة نور، والسراج نور، والزيت نور، فكذلك المؤمن اعتقاده نور، وقوله نور، وفعله نور.
وقال أبو العالية: فهو يتقلب في خمسة أنوار، فكلامه نور، وعمله نور، ومخرجه نور، ومدخله نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة.
{يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء} يعني: يوفق ويعطي من يشاء، يعني: الهدى وللآية وجه آخر {الله نُورُ السموات والأرض} يعني: الله مرسل الرسل لأهل السموات وأهل الأرض {مَثَلُ نُورِهِ} يعني: مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم، فسماه نورًا كقوله: {يا أهل الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ} [المائدة: 15].
ثم قال: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} يعني: مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم في صلب أبيه، كالقنديل يضيء البيت المظلم.
فكما أن البيت يكون مضيئًا بالقنديل، فإذا أخذ منه القنديل يبقى البيت مظلمًا؛ فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم كان كالقنديل في صلب أبيه فلما خرج بقي صلب أبيه مظلمًا.
{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة} يعني: نور محمد صلى الله عليه وسلم من نور إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} يعني: لم يكن إبراهيم عليه السلام يهوديًا ولا نصرانيًا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا؛ ويقال: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} يعني: يعطي الله النبوة لمن يشاء، ولها وجه آخر {الله نُورُ السموات والأرض} يعني: منزل القرآن، فنور بالقرآن السموات والأرض.
{مَثَلُ نُورِهِ} يعني: مثل نور القرآن في قلب المؤمن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} يعني: قلب المؤمن بالقرآن، {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة} يعني: ينزل القرآن من رب كريم ذي بركة {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي ليس القرآن بلغة السريانية ولا بلغة العبرانية، ولكنه عربي مبين {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يعني: القرآن يضيء وألفاظه مهذبة، وإن لم تفهم معانيه {يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء} يعني: يوفق ويكرم بفهم القرآن من يشاء.
{وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ}؛ يعني: الله عز وجل يبيِّن الأشياء للناس لكي يفهموا، ويقال: المثل كالمرآة يظهر عنده الحق {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} من ضرب الأمثال.
ثم قال الله عز وجل: {فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} يعني: ما ذكر من القنديل المضيء، يعني: هو في المساجد.
ثم وصف المساجد؛ ويقال هذا ابتداء القصة، وفيه معنى التقديم، يعني: أذن الله أن ترفع البيوت وهي المساجد {أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} أي تبنى وتعظم، {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه}؛ يعني: توحيده؛ ويقال: بالأذان والإقامة.
{يُسَبّحُ لَهُ} فيها، يعني: يصلي لله في المساجد {بالغدو والاصال} يعني: عند الغداة والعشي.
قرأ ابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر {يُسَبّحُ} بنصب الباء على معنى فعل ما لم يسم فاعله.
ثم قال عز وجل: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة} يعني: هم رجال، وقرأ الباقون {يُسَبّحُ} بكسر الباء، ويكون الفعل للرجال، يعني: يسبح فيها {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ} يعني: لا يشغلهم البيع والشراء عن ذكر الله، يعني: عن طاعة الله، وعن مواقيت الصلاة.
{وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة} يعني: عن إتمام الصلاة.
قال بعضهم: نزلت الآية في أصحاب الصفة وأمثالهم، الذين تركوا التجارة ولزموا المسجد؛ وقال بعضهم: هم الذين يتجرون ولا تشغلهم تجارة عن الصلوات في مواقيتها، وهذا أشبه، لأنه قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} وأصحاب الصفة وأمثالهم لم يكن عليهم الزكاة، وقال الحسن: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة}.
أما أنهم كانوا يتجرون، ولم تكن تشغلهم تجارة عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
وروي عن ابن مسعود أنه رأى قومًا من أهل السوق سمعوا الأذان، فتركوا بياعاتهم، وقاموا إلى الصلاة، فقال: هؤلاء من الذين.
{لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}.
ثم قال: {يخافون يَوْمًا} يعني: من اليوم الذي {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والابصار} يعني: يتردد فيه القلوب والأبصار في الصدر، إن كان كافرًا فإنه يبلغ الحناجر من الخوف، وإن كان تقيًّا مؤمنًا تقول الملائكة {هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فبين ما في قلبه في البصر، وإن كان حزنًا فحزن، وإن كان سرورًا فسرور، ويقال يتقلب يعني: يتحول حالًا بعد حال مرة، يعرفون ومرة لا يعرفون، ويقال ينقلب يعني: يتحول عما كانت عليه في الدنيا من الشك حين رأى بالمعاينة فيتحول قلبه وبصره من الشك إلى اليقين.
ثم قال عز وجل: {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} يعني: يجزيهم الله بإحسانهم، ويقال: يجزيهم أحسن وأفضل من أعمالهم وهو الجنة، ويقال: ويجزيهم أكثر من أعمالهم بكل حسنة عشرةً وأضعافًا مضاعفة ويقال يجزيه ويغفر له بأحسن أعماله ويبقى سائر أعماله فضلًا.
ثم قال: {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} أي يرزقهم من عطائه {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يرزقه ولايحاسبه، ويقال: يرزقه رزقًا لا يدرك حسابه، ويقال: ليس أحد يحاسبه فيما يُعطي، ويقال: بغير حساب، أي من غير حساب، أي من حيث لا يحتسب.
ثم ضرب مثلًا لعمل الكفار، فقال عز وجل: {والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} يعني: مثل أعمالهم الخبيثة في الآخرة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} يعني: كمثل سراب في مفازة، ويقال: قاع وقيعة وقيعان، يعني: أرضًا مستوية كما يقال: صبي وصبية وصبيان.
ثم قال: {يَحْسَبُهُ الظمان مَاء} يعني: العطشان إذا رأى السراب من بعيد يحسبه ماء {حتى إِذَا جَاءهُ} يعني: فإذا أتاه ليشرب منه {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} يعني: لم يجده ماء ويقال لم يجده شيئًا مما طلبه وأراده، فكذلك الكافر يظن أنه يثاب في صدقته وعتقه وسائر أعماله، فإذا جاءه يوم القيامة وجده هباءً منثورًا ولا ثواب له.
قوله: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} أي يوم القيامة عند عمله وهذا كما قال {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} يعني: مصير الخلائق إليه {فوفاه حِسَابَهُ} يعني: يوفيه ثواب عمله {والله سَرِيعُ الحساب} فكأنه حاسب، ويقال: سريع الحفظ، ويقال: إذا حاسب فحسابه سريع، فيحاسبهم جميعًا، فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة، فلا يشغله حساب أحدهم عن الآخر، لأنه لا يحتاج إلى أخذ الحساب، ولا يجري فيه الغلط، ولا يلتبس عليه، ويحفظ على كل صاحب حسابٍ حسابه ليذكره، فهذا المثل لأعمال الكفار، والتي في ظاهرها طاعة، فأخبر أنه لا ثواب لهم بها.
ثم ضرب مثلًا آخر للكافر، فقال عز وجل: {أَوْ كظلمات} قال بعضهم: الألف زيادة، ومعناه وكظلمات، يعني: مثلهم أيضًا كظلمات.
ويقال: أو للتخيير، يعني: إن شئت فاضرب لهم المثل بالسراب، وإن شئت بالظلمات، فقال: {أَوْ كظلمات} {فِى بَحْرٍ لُّجّىّ} يعني: مثل الكافر كمثل رجل يكون في بحر عميق في الليل، كثير الماء {يغشاه مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظلمات} يعني: يكون في ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة السحاب، فكذلك الكافر في ظلمة الكفر، وظلمة الجهل، وظلمة الجور والظلم.
ويقال: {يغشاه مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} يعني: المعاصي، ومن فوقه العداوة والحسد والبغضاء، و{مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} يعني: الخذلان من الله تعالى.